المقدمة :
لقد جرت العادة أن يقع تناول قضية الفقر من حيث هو ظاهرة اقتصادية واجتماعية عادية مألوفة موجودة في جميع المجتمعات وفي جميع العصور وإن بدرجات متفاوتة .
وتزخر آداب الشعوب بالإشارات إلى الفقراء والأغنياء كما لا تخلو الأديان من ذكر واجب الأغنياء تجاه الفقراء باعتبار الفقر والغنى محنة لهؤلاء وامتحانا لأولئك.

وخلال النصف الثاني من القرن العشرين كثر الحديث عن الفقر والفقراء في أدبيات الأمم المتحدة بالتوسّع من الظاهرة الاجتماعية في المجتمع الواحد إلى الظاهرة العالمية بتصنيف البلدان إلى غنية وفقيرة وبتحديد مقاييس ومؤشرات للفقر في مستوى البلدان وكذلك الأفراد مع مراعاة النسبيّة، فالفقير في الصومال لا يُقاس بالمقاييس نفسها التي يقاس بها الفقير في أمريكا الشمالية.

وهكذا توسّع الاهتمام بظاهرة الفقر من المجال الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع من المجتمعات إلى مجال العلاقات الدولية. فهل ثمة في هذا التوسّع ما يبرّر ربط ظاهرة الفقر بحقوق الإنسان بمفهومها الحديث ؟

يقتضي الجواب عن هذا السؤال أن نحدد أولا ماهية الفقر وأنواعه وأن نحلّل أسبابه ومظاهره لنبيّن طرائق مقاومته والقضاء عليه.

أوّلا: ماهية الفقر

1-الدلالة :
المعاني التي يدل عليها الفقر لغة تتلخص في النقص والحاجة. فالفقير إلى الشيء لا يكون فقيرا إليه إلاّ إذا كان في حاجة إليه لغيابه تماما أو لوجوده دون الحاجة. والمعنى السائد الذي يتبادر إلى الذهن قبل غيره هو نقص المال الذي يمكّن من تحقيق الحاجات من مأكل وملبس ومسكن، الخ.
وقد ميّز بعض الفقهاء قديما بين الفقير الذي لا يملك قوت عامه والمسكين الذي لا يملك قوت يومه، وهي مقابلة لها علاقة بواجب الزكاة..

2 – مقياس الفقر وأنواعه :
تنزع المؤسسات الأممية إلى تحديد عتبات الفقر حسب مستوى المعيشة في كل بلد، ولكنها تورد غالبا معدّلا يطبق على البلدان الفقيرة، مقدّرة عتبة الفقر بمعدّل دخل فردي دون الدولارين في اليوم، ومعتبرة ما دون الدولار الواحد علامة فقر مدقع.
ويمكن التمييز بين الفقر الثابت المتواصل وهو جماعي هيكلي والفقر الطارئ أو الظرفي الناجم عن أزمة اقتصادية أو عسكرية أو سياسية عابرة أو جائحة من الجوائح أو الكوارث الطبيعية وهو عادة ما يمكن تجاوزُه بالتضامن الشعبي والدولي.

ثانيا: أسباب الفقر
رأينا أنّ الفقر يُعتبر تقليديا قدرا، وهو من طبيعة الأشياء فالرزق على الله يعطيه من يشاء متى شاء.
لذلك لا أحد يستغرب وجود الفقر في مجتمع ما لأنه موجود في جميع المجتمعات ، ويمكن من هذه الزاوية أن نتبيّن أسبابا داخلية وأخرى خارجية.

1- الأسباب الداخلية :
من أهم الأسباب الداخلية طبيعة النظام السياسي والاقتصادي السائد في بلد ما.
فالنّظام الجائر لا يشعر فيه المواطن بالأمن والاطمئنان إلى عدالة تحميه من الظلم والعسف.

2 – الأسباب الخارجية :
الأسباب الخارجية متعددة، وهي أعقدُ وأخفى أحيانا. من أكثرها ظهورا الاحتلال الأجنبي كما حدث في العراق أخيرا بعد حصار دام أكثر من عقد تسبب في تفقير شعب بأكمله رغم ثرواته النفطية.
ويتعقد الأمر كثيرا إذا كان الاحتلال استيطانيا كما في فلسطين حيث تتدهور حالة الشعب الفلسطيني يوما بعد يوم وتتسع فيه رقعة الفقر نتيجة إرهاب الدولة الصهيونية وتدميرها المتواصل للبنية التحتية .
ومن الأسباب غير الظاهرة للعيان نقص المساعدات الدولية أو سوء توزيعها في البلدان التي يسود فيها الفساد في الحكم.

3 – الفقر والعولمة :
لقد تطوّر اقتصاد السوق ولاسيما بعد فشل الأنظمة الشيوعية إلى ما أصبح يسمى العولمة التي تتميز بتشابك المصالح والعلاقات الدولية ولاسيما في المجال الاقتصادي، ثم عمّ جميع الميادين تقريبا كنتيجة تبدو طبيعية للثورة التكنولوجية والمعلوماتية.
لكن شتان ما بين الشعار والواقع، فجميع التقارير تؤكد عكس ذلك. فالعولمة لم يستفد منها إلا الأغنياء إذا استثنينا اثني عشر بلدا ناميا استفادوا منها فعلا.
واتسعت الهوة بين البلدان الغنية والفقيرة، وتزايد عدد الفقراء في العالم إذ فاق المليارين من البشر.

ولعل هذا ما يبرّر ظهور حركات تناهض العولمة الوحشية وتعمل من أجل عولمة بديلة أو عولمة ذات وجه إنساني كما وصفتها ماري روبنسن المفوضة السامية لحقوق الإنسان سابقا لأن العولمة مسار طبيعي وليست خيارا،

ثالثا: مقاومة الفقر وتجريمه :
رأينا أن معالجة الفقر كانت منذ القديم تعتمد حلولا إنسانية مثل الصدقة من منطلق العطف أو التضامن أو الإعانات الإنسانية التي اتخذت بعدا دوليا في حالات الحروب والكوارث.
إلاّ أن الجديد نسبيا هو ربط الفقر بحقوق الإنسان في المستوى النظري وذلك بتجاوز المفاهيم المرتبطة بالطبيعة والقدر إلى اعتبار الفقر انتهاكا لحقوق الإنسان،
وإن خاصية الفقر هي أنه لا يمثل انتهاكا لواحد من حقوق الإنسان وإنما يمثل انتهاكا لجميع حقوقه، لذلك بدأ الحديث في العقد الأخير خاصة عن الفقر باعتباره انتهاكا شاملا لحقوق الإنسان. وقد ذهب نلسون منديلا أبعد من ذلك في قمة كوبنهاكن حين وصف الفقر وصفا بليغا باعتباره "الوجه الحديث للعبودية". وكما ألغت البشرية العبودية خلال القرن التاسع عشر وجرّمته، فهي مطالبة اليوم بإلغاء الفقر وتجريمه لأنه يتسبب في أشكال جديدة من العبودية.

1- ربط الفقر بحقوق الإنسان :
يتضح لنا مما سبق أن ربط الفقر بحقوق الإنسان، يمثل مرحلة أساسية ضرورية للوصول إلى تجريمه كما جرّمت العبودية. وقد بدأ هذا الربط تدريجيا منذ الثمانينات بصدور إعلان الحق في التنمية سنة 1986 الذي يستمد جذوره من المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) التي تنص على أن "لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة، وله الحق في تأمين معيشتة في حالات البطالة والمرض والعجز والترمّل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته".

2 - من الربط إلى الإلزام :
يمكن القول إننا اليوم في مرحلة إدراج الفقر ضمن منظومة حقوق اإنسان بصفة نظرية ومبدئية. أما إدراجه ضمن المنظومة المعياريةّ، فهو غير مباشر لأنه يمر عبر الحقوق المنصوص عليها في المواثيق الدولية، فهل من الواقعية أن تصبح مقاومة الفقر إلزامية مثل منظومة حقوق الإنسان الأخرى؟

وقد يرى البعض أن الليبرالية واقتصاد السوق وماآلا إليه من عولمة متوحشة مسؤول عن هذا الوضع.
إن القضية اليوم ليست مناهضة رأس المال بمفهومه التقليدي، أو باسم دكتاتورية البرولتياريا، وهو موقف غير واقعي، بل هو عقيم، وإنما هي قضية مناهضة جميع الدكتاتوريات بما فيها دكتاتورية السوق، التي تسعى العولمة المتوحشة إلى فرضها. لذلك نحتاج اليوم إلى توسيع

مفهوم رأس المال بتصنيفه إلى ثلاثة :
رأس المال الاقتصادي و هو مالي قابل للنموّ بحسن التصرّف.
رأس المال البشري وهو فردي يتحسّن خاصة بالتعليم والمعرفة.
رأس المال الاجتماعي وهو جماعي يهم مجتمعا معينا ويتحسّن بالتوزيع الأعدل لثمار النمو وبالتضامن الاجتماعي (العائلي والوطني...).

وهكذا تكون تنمية رؤوس الأموال الثلاثة وما يتفرع عنها عاملا أساسيا من عوامل التنمية الشاملة والقضاء على الفقر بإقرار الحق في تساوي الفرص حتى تتوفر للإنسان وسائل تجاوز حالة الفقر والخروج منه نهائيا.

الخلاصــة :
إن هذا التطور في مفهوم الفقر لا ينفي الوسائل التقليدية في محاربة الفقر مثل التضامن والمساعدات الإنسانية اجتماعيا ودوليا، وإنما يتجاوزها إلى تصوّر يُعرّف الفقر تعريفا أدق ويحلل أسبابه ونتائجه تحليلا أعمق وأشمل من النواحي الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ومثلما فرضت البشرية بعث محاكم عدل دولية، لا نستغرب أن تنشأ يوما، قد لا يكون بعيدا، محكمة دولية تجرّم الفقر الذي يتسبب فيه الحكم الفاسد بالمقاييس الموضوعية. وإن ما يوجد في العالم اليوم من انتهاك لحقوق الإنسان والشعوب


بقلم
د. الطيب البكوش
رئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان


مع تحيات أخوكم